العراق بين الإطار والتيار

العراق بين الإطار والتيار

ذ.عصام احميدان

إن الموقع الجيو-استراتيجي الخاص والمميز للعراق جعل منه مركزا للأحداث الإقليمية الكبرى ، كما أن التنوع القومي والديني والمذهبي أسهم إلى حد كبير في خلق دينامية اجتماعية وسياسية لا تعرف التوقف ..لأجل ذلك ، يصعب على الباحث في الشأن العراقي أن يتجاوز المعطيات التاريخية والاجتماعية التي تميز هذا البلد عن غيره ، فهي تشكل أداة معرفية ضرورية لأي عملية تحليلية موضوعية بقدر الإمكان (لأنني من الذين يشككون في مدى إمكانية بناء تحليل محايد أو موضوعي لأن الباحث هو في أولا وأخيرا كائن حي لا مادة صماء).

ما أن تم الاجتياح الأمريكي للعراق سنة 2003 وما نتج عنه من سقوط سريع للنظام السياسي حتى بدأ يتشكل المشهد السياسي العراقي من خلال الروابط الإقليمية للقوى المحلية ، فظهرت فكرة “البيت الشيعي العراقي” مع الراحل الدكتور أحمد الجلبي وتحولت تنظيميا إلى صيغة الائتلاف الشيعي العراقي الذي ضم قوى سياسية تاريخية وأخرى جديدة وفي المقابل عبر تيار الإخوان المسلمين في العراق عن نفسه من خلال “الحزب الإسلامي” وبعض القوى العلمائية وأخرى عسكرية متصلة بقطر وتركيا ، بينما ظلت الإمارات العربية المتحدة تشكل قاعدة للتيار القومي العراقي ممثلا أساسا ببعثيين سابقين انتقلوا للإقامة فيها بعد سقوط النظام مباشرة .

بهذا الشكل أصبح العراق مسرحا للصراع الإقليمي وصورة أخرى عن مجريات الساحة العالمية وتوازنات القوى فيها ..غير أنه مع ذلك لا يمكن القول بأن هناك “استاتيكو” يحكم الحياة السياسية خلافا للعديد من التجارب الإقليمية ، فقد لاحظنا مثلا أن بعض التيارات العلمانية كتيار الجلبي كان مدعوما أمريكيا فتحول من حالة علمانية مدعومة أمريكيا إلى تصور سياسي شيعي خدم إلى حد بعيد مصلحة إيران في العراق وهو وما جلب لأحمد الجلبي نقمة أمريكية دفعته للانتقال إلى طهران بعد أن قيل أنه ورط إدارة بوش في عملية غزو العراق.

أيضا لاحظنا أن أكبر تيار شيعي كان يحظى بالدعم الإيراني خلال فترة النظام السابق هو “المجلس الإسلامي الأعلى” و الذي كان يقوده الراجل آية الله السيد محمد باقر الحكيم بينما كانت علاقة حزب الدعوة بإيران متأرجحة مدا وجزرا ، لأن تيار الحكيم كان الأقرب إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبسبب هذه العلاقة المميزة كانت القوى الشيعية الأخرى تشعر بالإقصاء وهو ما حدث أحيانا مع حزب الدعوة وأحايين الأخرى مع التيار الصدري قبل استشهاد السيد محمد محمد صادق الصدر وبعد استشهاده أيضا ..غير أن المجلس الأعلى بعد سنوات قليلة من سقوط النظام بدأ يحاول تأسيس استقلاليته نوعا ما فتراجعت مكانته لدى إيران وأصبح جناحه العسكري أقرب من المجلس إلى الجمهورية (أي منظمة بدر بقيادة هادي العامري) .

في مقابل ذلك ، أصبح التيار الصدري أقرب إلى إيران من المجلس الإسلامي الأعلى ، بل وحتى أقرب من حزب الدعوة وباقي الفصائل الشيعية ، وهو ما تجلى بشكل واضح إبان المواجهة المسلحة بين التيار الصدري والمالكي إبان فترة حكومة هذا الأخير ، لكن الأمر لم يطل كثيرا فأصبحت المواقف الاستقلالية للتيار الصدري مثار شكوك من الجانب الإيراني خاصة في ظل تحسن علاقات التيار الصدري ببعض الدول العربية التي كانت تدعم المكون السني حصرا في مواجهة إيران وحلفائها ، ليتحول الدعم الأكبر للأجنحة المنشقة عن التيار الصدري والتي تحالفت مع ائتلاف دولة القانون وتعزز هذا التحالف بعد سقوط الموصل بيد “داعش”.

لقد مثل سقوط الموصل وإعلان المرجعية الدينية في النجف ممثلة في آية الله السيد السيستاني فتوى الجهاد الكفائي بداية لتشكل “الحشد الشعبي” والذي وإن كان يضم بين جنباته العديد من الأجنحة الشيعية المستقلة بل وأيضا من مكونات أخرى غير شيعية بنسبة أقل ، غير أن السمة الغالبة على الحشد الشعبي هي دعمه للجمهورية الإسلامية الإيرانية باعتبارها كانت الداعم اللوجستي الأكبر في معركة تحرير الموصل.

من هذا المنطلق ، عرف المشهد الشيعي العراقي بروز أربع قوى أساسية :

*القوة الدينية : ممثلة في المرجعية الدينية التي تكلفت بإيجاد الغطاء الفتوائي لمواجهة “داعش” .

*القوة المسلحة : ممثلة في الحشد الشعبي والذي تحول (ولو في مستوى ظاهري) إلى قوة رديفة للقوات المسلحة العراقية التي يقودها رئيس الوزراء .

*القوة الشعبية : ممثلة في التيار الصدري دون أن يعني أن التيار يحتكر الساحة الشعبية لكنه يبقى في نظر المراقبين التيار الأكثر شعبوية في الساحة الشيعية العراقية .

*القوة السياسية : كان ولا يزال حزب الدعوة يمثل أكبر قوة سياسية من حيث الكوادر وقوة التنظيم والنفوذ والهيكلية القطاعية التي لم تتشكل فقط بعد سقوط النظام بل إن عدد من الهياكل القطاعية تشكلت في زمن النظام السابق في خارج العراق وتم نقلها من المنفى إلى القطاعات الرسمية داخل العراق.

بعد انتهاء عملية تحرير الموصل حرص كل طرف على تسويق نفسه كصانع للنصر على الإرهاب ، وهو ما تبلور على أعتاب انتخابات 2018 في صيغة ائتلافات جديدة كالنصر “جناج من الدعوة من خلال رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي “والفتح “الحشد الشعبي بقيادة العامري والفياض” وتحالف سائرون من أجل الإصلاح (التيار الصدري) وائتلاف دولة القانون “بقيادة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي” .

قد يقول قائل أن هذه الائتلافات تمثل فقط ثلاث قوى من القوى الأربع السالفة الذكر ( الدعوة ، الحشد الشعبي ، التيار الصدري) فما موقع القوة الرابعة أي : المرجعية الدينية ؟

إننا لو توجهنا بهذا السؤال إلى المرجعية نفسها فإننا قد نجد الجواب على الشكل التالي وهو : أن المرجعية تنأى بنفسها عن الشأن السياسي وأنها على مسافة واحدة من الجميع ..لكن ، لو طرحنا السؤال على جهات أخرى فإن الجواب سيكون مختلفا ، حيث أنهم سيقولون بأن المرجعية الدينية دعمت لمدة طويلة لائحة “المستقلين” وهم في الغالب كوادر قريبة من المرجعية لا تنتمي حزبيا إلى القوى السياسية المذكورة .

إذن ، فالمشهد الشيعي السياسي العراقي شديد التحول لكون القوى السياسية تغير موقعها وتحالفاتها بشكل مستمر ، ومسألة القرب أو البعد من إيران مسألة غير ثابتة بل متحركة تحكمها المصلحة السياسية بالدرجة الأولى ووحدة الطائفة بالدرجة الثانية عندما يكون هناك شعور بالاستهداف الطائفي من قبل مجموعات أو دول مناوئة .

في الوقت الذي تزايدت فيه متانة الروابط السياسية بين الحشد الشعبي والدعوة بأجنحتها المختلفة تباعدت الطرق مع التيار الصدري ، خاصة وأن التيار أوجد علاقات إقليمية مع دول سنية وأصبح يطالب بأن يكون للعراق مسافة واحدة مع كل دول الجوار ، وهو الأمر الذي جعل الساحة الشيعية العراقية تشهد انقساما حادا بين (الدعوة والحشد) من جهة والتيار من جهة أخرى في ظل التزام الخط الرابع (المرجعية) الحياد إلى حد ما في الصراعات السياسية القائمة والإيعاز إلى ممثليها والقائمين على العتبات بتمرير رسائل سياسية لهذا الطرف أو ذاك بحسب ما تقتضيه المرحلة .

إن المستفيد الأكبر من احتدام الصراع بين (الدعوة والحشد) من جهة والتيار من جهة ثانية كان هو رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي حيث أن الرجل وإن كان له ولبعض أفراد أسرته علاقة قديمة بحزب الدعوة غير أنه لا ينتمي إلى إحدى القوى الأربع السالفة الذكر ، وقد يكون أوحى له بعض المقربين منه فكرة “الحكم الحاكم” أي أن الفرد الفاقد للقوة يمكنه أن يحكم من خلال إدارة علاقة القوى بعضها ببعض ، وهو ما أثمر فعليا عن توليه منصب رئاسة الوزراء في ظل التجاذبات السياسية بين الفريقين ..لا ، بل إن الرجل لعلمه جيدا بأن التدخلات الإقليمية هي سيدة الموقف في العراق فقد طور مجال سلطة التحكيم من الساحة المحلية إلى الساحة الإقليمية حيث قدم نفسه لأمريكا وإيران ودول الخليج كحلقة أساسية للحوار الإقليمي تماما كما حاولت وتحاول قطر القيام به لولا تورطها بشكل سيء في دعم “الإخوان المسلمين” بمصر وسوريا ..لذلك فأشبه شيء بالدور الذي حاول لعبه مصطفى الكاظمي كان هو الدور العماني في المنطقة .

لقد باتت رؤية رئيس حكومة تصريف الأعمال العراقية مصطفى الكاظمي أقرب إلى التيار الصدري والتشرينيين ، ولولا ذلك لضمن الرجل منصب رئاسة الوزراء بشكل توافقي لولاية جديدة ، وهو ما دفع تحالف ( الدعوة والحشد) الذي أطلق عليه اسم “الإطار التنسيقي” (تحول لاحقا إلى اسم ائتلاف إدارة الدولة”إلى ترشيح المالكي بداية والذي يعارضه بشدة التيار الصدري ثم ترشيح شياع السوداني المقرب أيضا من نوري المالكي لرئاسة الوزراء .

إن عدم قدرة أي طرف سياسي على حسم الصراع داخل البرلمان وفقا للآليات الدستورية قد عجل بنقل الصراع إلى الشارع ، فالتيار الصدري بتحالفه مع التشرينين خرج من البرلمان كي يستدرج خصومه إلى ملعبه “الشعبوية” ، وهو ما تجلى بشكل واضح في الاعتصامات والتظاهرات التي يخوضها التيار عند كل منعطف سياسي يرى من خلاله أنه قد يكون فرصة للإطار لتشكيل “حكومة إطارية”.

لقد أشرفت عملية “الحياد والتحكيم” للسيد الكاظمي على الانتهاء ، حيث أن رئيس الوزراء لم يعد -في نظر خصومه- يمثل وسط العصا ، كما أن إيران التي كانت تحاول إقناع المالكي بفكرة عدم الترشح وكذا عدم ترشيح أحد عن الإطار والسماح بفترة انتقالية يقودها مصطفى الكاظمي بما يمكن أن تستفيد منه في إطار جولات الحوار الإيراني السعودي المرافق لجولات المفاوضات النووية مع الغرب ..لم تعد متحمسة لهذا الخيار ، خاصة بعد مشاركة الكاظمي في اجتماع بايدن بقادة عرب وخليجيين في الرياض وأيضا بعد ظهور مؤشرات الدعم غير المباشر للمعتصمين في البرلمان من التيار الصدري وصولا إلى تعثر المفاوضات النووية الإيرانية وهو ما جعل طهران تعتذر للكاظمي عن الاستمرار في حضور جولات الحوار الإيراني السعودي في بغداد .

لقد فهم الكاظمي هذه الرسائل والمؤشرات الدولية والإقليمية وما تبعها من إعادة ترشيح شياع السوداني بعدما كان الإطار قد أبدى استعداده لسحب ترشيحه والوصول لاتفاق مع التيار ..لأجل ذلك وجد رئيس وزراء تصريف الأعمال نفسه في حل من أي توزانات فراح يصدر بيانات تندد بالضربات الصاروخية الإيرانية شمال العراق ..فقد بات واضحا لديه من كون المرحلة السياسية القادمة ليست مرحلة توافق بل مرحلة سيحتدم فيها الصراع بين الفريقين ولا مكان فيه لأنصاف الحلول ولوسط العصا .

إن إيران بدورها تخشى من تطور الصراع السياسي بين شيعة العراق ، وهو ما لا يخدم مصلحة إيران كذلك ، لأجل ذلك فإنها وإن كانت لا تريد بقاء الكاظمي غير أنها لا ترغب أيضا في خسارة شريحة عريضة من الشيعة في العراق ، لأجل ذلك من المحتمل أن يتم دعم مرشح جديد توافقي بين الإطار والتيار لا يكون المالكي ولا السوداني ..وهو الأمر الذي أستبعد أن يقبله المالكي الذي يعول فقط على دعم السيد عمار الحكيم و عصائب أهل الحق (غير معلوم إلى أي مدى قد يستمر هذا التحالف بين المالكي والخزعلي بسبب بنية العصائب واعتمادها على إيران) بينما في المقابل هناك اتجاه من داخل الإطار أقرب لوجهة نظر إيران يسعى نحو إيجاد مرشح توافقي مع التيار الصدر ويمثل هذا الجناح كل من (العامري والعبادي).

إن المرحلة القادمة ستفضي إلى تباينات جديدة وتبدلات مواقع مجددا..فتلك هي السمة التي تميز شيعة العراق سياسيا كما قلنا في مقدمة هذا المقال ..والأيام القادمة بلاشك ستكون حبلى بالمفاجئات و التحولات الجديدة من داخل البيت الشيعي العراقي .